سحر القراءة وفتنة الكلمات

Share on facebook
Share on twitter

بقلم: زينب علي البحراني

 كثير من البشر يعتبرون قراءة الكُتُب أمرًا مملاً أو سخيفًا، بينما يعتبرها بعضهم مجهودًا يفوق قدرة وقتهم على استيعابه تحت وطأة ظروف كفاحهم اليومي وسباقهم مع الزمن للوصول إلى اليوم التالي دون ثغرات في تأدية مهامهم الإجبارية، وهناك ذاك النوع الذي قد يُنفق أمواله على كل أشكال السخافات في العالم إلا الكُتُب لأنه يعتبر أن في اقتناء كتاب تبذيرًا للمال.. إذا كُنت مفتونًا بالقراءة منذ الطفولة فسُرعان ما ستكتشف وجود هؤلاء بين من يستصغرون هدية قدمتها لهم إذا اكتشفوا أنها كتابًا، وإذا شاءت الأقدار أن تحملك بجناحيها إلى جزيرة التأليف فسيتسع مدى رؤيتك لهم بعد سلسلة من الصدمات تبدأ بأولئك الذين يطلبون منك “نُسخة مجانية” دون نيّة حقيقية لقراءتها! ولا تنتهي بأولئك الذين يسرّهم التعرف إليك ومُتابعة أخبارك اليومية كـ”مؤلف مشهور” لكنهم ليسوا على استعداد لقراءة أي من مؤلفاتك حتى لو نشرتها مجانًا!

إذا كُنت شخصًا طبيعيًا قد تُصاب بشيء من الإحباط أو الاكتئاب عند مواجهة تلك الحقيقة، لكن إذا كُنت تنتمي إلى فصيلة “المجانين إلى حدٍ ما” مثلي؛ فستمتلئ روحك بمشاعر الزهو والفخر والكبرياء، وسيدور في خلدك الحديث السري التالي الذي لا تجرؤ على الإفصاح عنه بصراحة أمام مخلوق آخر: “يا للبهاء! يا للعظمة! أنا انسان فريدٌ من نوعي بين كل أولئك الذين لم تؤثث عقولهم ملايين صفحات الكتب مثلي ولا يعرفون الأسرار الكبيرة التي أعرفها”، وبعد فترة من النضج ستصل إلى تلك المرحلة التي لا تتأثر خلالها بالأحداث المفرحة أو المؤلمة في عالمك الخارجي، لأنك تحوّلت إلى ممثل حي يؤدي دورًا تفاعُليًا واعيًا مع الآخرين في قصة حياتك، بطل رواية فلسفية طويلة بلا بداية مفهومة ولا نهاية متوقعة، وبهذا تملك زمامًا جديدًا للسيطرة على واقعك، فتغلبه أكثر مما يغلبك، وتستخدمه أكثر مما يستخدمك، وتغدو مُحركًا لخيوط الدُمى المحيطة بك بعد أن كُنت أنت الدمية التي تُحرك خيوطها قوى عشوائية تحرمها فرصة تحديد المصير.

ستكتشف – أيضًا- بمرور الزمن أن قراءة الكتب الجيدة هي وسيلة مثالية للمحافظة على الشباب بطريقة ما، وهي حيلة سحريّة تجعلك تبدو أصغر سنًا – دائمًا وأبدًا- من حقيقتك الداخلية، ومن حجرات ذاتك السريّة التي تراكمت على أرففها أكداس من تجارب الآخرين وخبرات أعمارهم بكل ما تكتنزه من مشاعر ورغبات ومعلومات، في أعماقك أسرار الماضي وكنوز القرون، وروحك صارت تملك مفتاح توقعات الواقع وتنبؤات المستقبل بما تملكه من معرفة بالخطوات المعتادة التي يكرر بها التاريخ نفسه، والرسائل الكونية التي تتجلى في صورة أحداث تحذرك مما سيكون.. القراءة مثل ساحرة خفيّة تُقدّم ما لديها بالتدريج لتلاميذها الذين يُثبتون إخلاصهم فقط، وما أن تسمح لعقلك بالغوص في عالمها اللذيذ حتى تبدأ مرحلة إدمان تلك اللذة والانجراف نحو سراديبها برضا وثقة واستسلام كامل، لن يعوقك زمان أو مكان، ولن تتذرع بأي معاذير لأنك بحاجة لجُرعتك اليومية من الكلمات الشهية المصفوفة على الصفحات بأناقة، ولأن روحك وصلت إلى مرحلة عدم القدرة على التنفس من دونها مهما كانت الظروف والواجبات، فتختلس الدقائق للقراءة في الحافلة، خلال تناول طعامك، في غرفة انتظار دورك قبل موعدك مع الطبيب، أو في ذيل طابور طويل من المشترين الذين ينتظرون دورهم لدفع الحساب في متجر مزدحم.. شيء يشبه ما أشار إليه المؤلف البريطاني “آندي ميلر” عندما كتب عن مذكراته بين قراءة الكتب وبين واجباته اليومية الملحة كأب، وزوج، وموظف بدوام طويل في كتابه “سنة القراءة الخطرة”: “كان من الصعب الاتصال بالكتاب خلال قيامي بمهام أخرى، رسائل إلكترونية علي إرسالها، سندويشات علي إعدادها، أو تنّين بنفسجي أشاهده على التلفاز مع طفلي يُغني أغنية عن الصداقة. كان الأمر صعبًا، ويتطلب عددًا من التضحيات. النبيذ، التلفاز، المُحادثات، كلها كانت مؤجلة. كان الأمر يتطلّب شيئًا من الأنانية والمكر. “سأذهب إلى مكتب البريد”، كُنت أدّعي ذلك أحيانًا في أكثر ساعات اليوم ازدحامًا بالأعمال، “لن أتأخر”، وفي الطابور المشهور بعدم تحرّكه في مكتب البريد؛ أتمكن من قراءة بعض الصفحات”.

لن يفهم الآخرون هذا الجنون، فمن لم يُجرّب تلك اللذة لا يُدرك قيمتها الحقيقية، أما أنت فستهمس في أعماقك مع “أندي ميلر” بأقصى ما تملكه من شغف: “كيف استطعت العيش من قبل دون هذه المتعة؟”.

*تاريخ النشر الورقي:

السبت 3 فبراير  2018م- النسخة الورقية من جريدة “أخبار الخليج” البحرينية.

 

 

تواصل معي الان